صفحة ٢٤٦

﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِن قَوْمٍ عَسى أنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنهم ولا نِساءٌ مِن نِساءٍ عَسى أنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنهُنَّ﴾

لَمّا اقْتَضَتِ الأُخُوَّةُ أنْ تُحْسَنَ المُعامَلَةُ بَيْنَ الأخَوَيْنِ كانَ ما تَقَرَّرَ مِن إيجابِ مُعامَلَةِ الإخْوَةِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ يَقْتَضِي حُسْنَ المُعامَلَةِ بَيْنَ آحادِهِمْ، فَجاءَتْ هَذِهِ الآياتُ مُنَبِّهَةً عَلى أُمُورٍ مِن حُسْنِ المُعامَلَةِ قَدْ تَقَعُ الغَفْلَةُ عَنْ مُراعاتِها لِكَثْرَةِ تَفَشِّيها في الجاهِلِيَّةِ لِهَذِهِ المُناسَبَةِ، وهَذا نِداءٌ رابِعٌ أُرِيدَ بِما بَعْدَهُ أمْرُ المُسْلِمِينَ بِواجِبِ بَعْضِ المُجامَلَةِ بَيْنَ أفْرادِهِمْ.

وعَنِ الضَّحّاكِ: أنَّ المَقْصُودَ بَنُو تَمِيمٍ إذْ سَخِرُوا مِن بِلالٍ وعَمّارٍ وصُهَيْبٍ، فَيَكُونُ لِنُزُولِ الآيَةِ سَبَبٌ مُتَعَلِّقٌ بِالسَّبَبِ الَّذِي نَزَلَتِ السُّورَةُ لِأجْلِهِ وهَذا مِنَ السُّخْرِيَةِ المَنهِيِّ عَنْها.

ورَوى الواحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ سَبَبَ نُزُولِها: أنَّ ثابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ كانَ في سَمْعِهِ وقْرٌ وكانَ إذا أتى مَجْلِسَ النَّبِيءِ ﷺ يَقُولُ: أوْسِعُوا لَهُ لِيَجْلِسَ إلى جَنْبِهِ فَيَسْمَعُ ما يَقُولُ فَجاءَ يَوْمًا يَتَخَطّى رِقابَ النّاسِ فَقالَ رَجُلٌ: قَدْ أصَبْتَ مَجْلِسًا فاجْلِسْ. فَقالَ ثابِتٌ: مَن هَذا ؟ فَقالَ الرَّجُلُ: أنا فُلانٌ. فَقالَ ثابِتٌ: ابْنُ فُلانَةَ وذَكَرَ أُمًّا لَهُ كانَ يُعَيَّرُ بِها في الجاهِلِيَّةِ، فاسْتَحْيا الرَّجُلُ. فَأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ، فَهَذا مِنَ اللَّمْزِ.

ورُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ: أنَّها نَزَلَتْ لَمّا عَيَّرَتْ بَعْضُ أزْواجِ النَّبِيءِ ﷺ أُمَّ سَلَمَةَ بِالقِصَرِ، وهَذا مِنَ السُّخْرِيَةِ.

وقِيلَ: عَيَّرَ بَعْضُهُنَّ صَفِيَّةَ بِأنَّها يَهُودِيَّةٌ، وهَذا مِنَ اللَّمْزِ في عُرْفِهِمْ.

وافْتُتِحَتْ هَذِهِ الآياتُ بِإعادَةِ النِّداءِ لِلِاهْتِمامِ بِالغَرَضِ فَيَكُونُ مُسْتَقِلًّا غَيْرَ تابِعٍ حَسْبَما تَقَدَّمَ مِن كَلامِ الفَخْرِ. وقَدْ تَعَرَّضَتِ الآياتُ الواقِعَةُ عَقِبَ هَذا النِّداءِ لِصِنْفٍ مُهِمٍّ مِن مُعامَلَةِ المُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ مِمّا فَشا في النّاسِ مِن عَهْدِ الجاهِلِيَّةِ التَّساهُلُ فِيها. وهي مِن إساءَةِ الأقْوالِ ويَقْتَضِي النَّهْيُ عَنْها الأمْرَ بِأضْدادِها. وتِلْكَ المَنهِيّاتُ هي السُّخْرِيَةُ واللَّمْزُ والنَّبْزُ.

صفحة ٢٤٧

والسَّخْرُ، ويُقالُ السُّخْرِيَةُ: الِاسْتِهْزاءُ، وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ: فَيَسْخَرُونَ مِنهم في سُورَةِ بَراءَةٌ، وتَقَدَّمَ وجْهُ تَعْدِيَتِهِ بِـ (مِن) .

والقَوْمُ: اسْمُ جَمْعٍ: جَماعَةُ الرِّجالِ خاصَّةً دُونَ النِّساءِ، قالَ زُهَيْرٌ:

وما أدْرِي وسَوْفَ أخالُ أدْرِي أقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أمْ نِساءُ ؟

وتَنْكِيرُ قَوْمٍ في المَوْضِعَيْنِ لِإفادَةِ الشِّياعِ، لِئَلّا يُتَوَهَّمَ نَهْيُ قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ سَخِرُوا مِن قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ.

وإنَّما أسْنَدَ ”يَسْخَرْ“ إلى ”قَوْمٌ“ دُونَ أنْ يَقُولَ: لا يَسْخَرْ بَعْضُكم مِن بَعْضٍ كَما قالَ: ﴿ولا يَغْتَبْ بَعْضُكم بَعْضًا﴾ [الحجرات: ١٢] لِلنَّهْيِ عَمّا كانَ شائِعًا بَيْنَ العَرَبِ مِن سُخْرِيَةِ القَبائِلِ بَعْضِها مِن بَعْضٍ فَوَجَّهَ النَّهْيَ إلى الأقْوامِ. ولِهَذا أيْضًا لَمْ يَقُلْ: لا يَسْخَرْ رَجُلٌ مِن رَجُلٍ ولا امْرَأةٌ مِنِ امْرَأةٍ.

ويُفْهَمُ مِنهُ النَّهْيُ عَنْ أنْ يَسْخَرَ أحَدٌ مِن أحَدٍ بِطَرِيقِ لَحْنِ الخِطابِ. وهَذا النَّهْيُ صَرِيحٌ في التَّحْرِيمِ.

وخَصَّ النِّساءَ بِالذِّكْرِ مَعَ أنَّ القَوْمَ يَشْمَلُهم بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ العُرْفِيِّ في الكَلامِ، كَما يَشْمَلُ لَفْظُ (المُؤْمِنِينَ) المُؤْمِناتِ في اصْطِلاحِ القُرْآنِ بِقَرِينَةِ مَقامِ التَّشْرِيعِ، فَإنَّ أصْلَهُ التَّساوِي في الأحْكامِ إلّا ما اقْتَضى الدَّلِيلُ تَخْصِيصَ أحَدِ الصِّنْفَيْنِ بِهِ دَفَعًا لِتَوَهُّمِ تَخْصِيصِ النَّهْيِ بِسُخْرِيَةِ الرِّجالِ إذْ كانَ الِاسْتِسْخارُ مُتَأصِّلًا في النِّساءِ، فَلِأجَلِ دَفْعِ التَّوَهُّمِ النّاشِئِ مِن هَذَيْنِ السَّيِّئَيْنِ عَلى نَحْوِ ما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ مِن آيَةِ القِصاصِ ﴿والأُنْثى بِالأُنْثى﴾ [البقرة: ١٧٨] في سُورَةِ البَقَرَةِ.

وجُمْلَةُ ﴿عَسى أنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنهُمْ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الجُمْلَتَيْنِ المُتَعاطِفَتَيْنِ تُفِيدُ المُبالَغَةَ في النَّهْيِ عَنِ السُّخْرِيَةِ بِذِكْرِ حالَةٍ يَكْثُرُ وُجُودُها في المَسْخُورِيَّةِ، فَتَكُونُ سُخْرِيَةُ السّاخِرِ أفْظَعَ مِنَ السّاخِرِ، ولِأنَّهُ يُثِيرُ انْفِعالَ الحَياءِ في نَفْسِ السّاخِرَةِ بَيْنَهُ وبَيْنَ نَفْسِهِ. ولَيْسَتْ جُمْلَةُ ”عَسى أنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنهم“ صِفَةً لِقَوْمٍ مِن قَوْلِهِ: ”مِن قَوْمٍ“ وإلّا لَصارَ النَّهْيُ عَنِ السُّخْرِيَةِ خاصًّا بِما إذا كانَ المَسْخُورُ بِهِ مَظِنَّةَ أنَّهُ خَيْرٌ مِنَ السّاخِرِ، وكَذَلِكَ القَوْلُ في جُمْلَةِ عَسى أنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنهُنَّ ولَيْسَتْ صِفَةً لِـ ”نِساءٍ“ مِن قَوْلِهِ: ”مِن نِساءٍ“ .

صفحة ٢٤٨

وتَشابُهُ الضَّمِيرَيْنِ في قَوْلِهِ: ﴿أنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنهُمْ﴾ وفي قَوْلِهِ: ﴿أنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنهُنَّ﴾ لا لَبْسَ فِيهِ لِظُهُورِ مَرْجِعِ كُلِّ ضَمِيرٍ، فَهو كالضَّمائِرِ في قَوْلِهِ تَعالى: وعَمَرُوها أكْثَرَ مِمّا عَمَرُوها في سُورَةِ الرُّومِ، وقَوْلِ عَبّاسِ بْنِ مِرْداسٍ:

عُدْنا ولَوْلا نَحْنُ أحْدَقَ جَمْعُهم ∗∗∗ بِالمُسْلِمِينَ وأحْرَزُوا ما جَمَّعُوا

* * *

﴿ولا تَلْمِزُوا أنْفُسَكم ولا تَنابَزُوا بِالألْقابِ﴾اللَّمْزُ: ذِكْرُ ما يَعُدُّهُ الذّاكِرُ عَيْبًا لِأحَدٍ مُواجَهَةً فَهو المُباشَرَةُ بِالمَكْرُوهِ. فَإنْ كانَ بِحَقٍّ فَهو وقاحَةٌ واعْتِداءٌ، وإنْ كانَ باطِلًا فَهو وقاحَةٌ وكَذِبٌ، وكانَ شائِعًا بَيْنَ العَرَبِ في جاهِلِيَّتِهِمْ، قالَ تَعالى: ﴿ويْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾ [الهمزة: ١] يَعْنِي نَفَرًا مِنَ المُشْرِكِينَ كانَ دَأْبُهم لَمْزَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ويَكُونُ بِحالَةٍ بَيْنِ الإشارَةِ والكَلامِ بِتَحْرِيكِ الشَّفَتَيْنِ بِكَلامٍ خَفِيٍّ يَعْرِفُ مِنهُ المُواجَهُ بِهِ أنَّهُ يُذَمُّ أوْ يُتَوَعَّدُ، أوْ يُتَنَقَّصُ بِاحْتِمالاتٍ كَثِيرَةٍ، وهو غَيْرُ النَّبْزِ وغَيْرُ الغَيْبَةِ.

ولِلْمُفَسِّرِينَ وكُتُبِ اللُّغَةِ اضْطِرابٌ في شَرْحِ مَعْنى اللَّمْزِ وهَذا الَّذِي ذَكَرْتُهُ هو المَنخُولُ مِن ذَلِكَ.

ومَعْنى (﴿ولا تَلْمِزُوا أنْفُسَكُمْ﴾) لا يَلْمِزْ بَعْضُكم بَعْضًا فَنُزِّلَ البَعْضُ المَلْمُوزُ نَفْسًا لِلامِزِهِ لِتَقَرُّرِ مَعْنى الأُخُوَّةِ، وقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿ولا تُخْرِجُونَ أنْفُسَكم مِن دِيارِكُمْ﴾ [البقرة: ٨٤] في سُورَةِ البَقَرَةِ.

والتَّنابُزُ: نَبْزُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، والنَّبْزُ بِسُكُونِ الباءِ: ذَكَرَ النَّبَزَ بِتَحْرِيكِ الباءِ وهو اللَّقَبُ السُّوءُ، كَقَوْلِهِمْ: أنْفُ النّاقَةِ، وقُرْقُورٌ، وبَطَّةُ، وكانَ غالِبُ الألْقابِ في الجاهِلِيَّةِ نَبْزًا. قالَ بَعْضُ الفَزارِيِّينَ:

أُكَنِّيهِ حِينَ أُنادِيهِ لِأُكْرِمَهُ ولا أُلَقِّبُهُ والسَّوْأةُ اللَّقَبُ

رُوِيَ بِرَفْعِ ”السَّوْأةُ اللَّقَبُ“ فَيَكُونُ جَرْيًا عَلى الأغْلَبِ عِنْدَهم في اللَّقَبِ وأنَّهُ سَوْأةٌ. ورَواهُ دِيوانُ الحَماسَةِ بِنَصْبِ السَّوْأةِ عَلى أنَّ الواوَ واوُ المَعِيَّةِ. ورُوِيَ بِالسَّوْأةِ اللَّقَبا أيْ لا أُلَقِّبُهُ لَقَبًا مُلابِسًا لِلسَّوْءَةِ فَيَكُونُ أرادَ تَجَنُّبَ بَعْضِ اللَّقَبِ

صفحة ٢٤٩

وهُوَ ما يَدُلُّ عَلى سُوءٍ. ورِوايَةُ الرَّفْعِ أرْجَحُ وهي الَّتِي يَقْتَضِيها اسْتِشْهادُ سِيبَوَيْهِ بِبَيْتٍ بَعْدَهُ في بابِ ظَنَّ. ولَعَلَّ ما وقَعَ في دِيوانِ الحَماسَةِ مِن تَغْيِيراتِ أبِي تَمّامٍ الَّتِي نُسِبَ إلَيْهِ بَعْضُها في بَعْضِ أبْياتِ الحَماسَةِ لِأنَّهُ رَأى النَّصْبَ أصَحَّ مَعْنًى.

فالمُرادُ بِـ ”الألْقابِ“ في الآيَةِ الألْقابُ المَكْرُوهَةُ بِقَرِينَةِ ”﴿ولا تَنابَزُوا﴾“ .

واللَّقَبُ ما أشْعَرَ بِخِسَّةٍ أوْ شَرَفٍ سَواءٌ كانَ مُلَقَّبًا بِهِ صاحِبُهُ أمِ اخْتَرَعَهُ لَهُ النّابِزُ لَهُ.

وقَدْ خُصِّصَ النَّهْيُ في الآيَةِ بِـ ”الألْقابِ“ الَّتِي لَمْ يَتَقادَمْ عَهْدُها حَتّى صارَتْ كالأسْماءِ لِأصْحابِها وتُنُوسِيَ مِنها قَصْدُ الذَّمِّ والسَّبِّ خُصَّ بِما وقَعَ في كَثِيرٍ مِنَ الأحادِيثِ كَقَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ «أصْدَقَ ذُو اليَدَيْنِ»، وقَوْلُهُ لِأبِي هُرَيْرَةَ: يا أبا هِرٍّ، ولُقِّبَ شاوُلُ مَلِكُ إسْرائِيلَ في القُرْآنِ طالُوتَ، وقَوْلُ المُحَدِّثِينَ الأعْرَجُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، والأعْمَشُ لِسُلَيْمانَ بْنِ مِهْرانَ.

وإنَّما قالَ: ”ولا تَلْمِزُوا“ بِصِيغَةِ الفِعْلِ الواقِعِ مِن جانِبٍ واحِدٍ وقالَ: ”﴿ولا تَنابَزُوا﴾“ بِصِيغَةِ الفِعْلِ الواقِعِ مِن جانِبَيْنِ، لِأنَّ اللَّمْزَ قَلِيلُ الحُصُولِ، فَهو كَثِيرٌ في الجاهِلِيَّةِ في قَبائِلَ كَثِيرَةٍ، مِنهم: بَنُو سَلِمَةَ بِالمَدِينَةِ قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ.

* * *

﴿بِئْسَ الِاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمانِ ومَن لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ﴾

تَذْيِيلٌ لِلْمَنهِيّاتِ المُتَقَدِّمَةِ وهو تَعْرِيضٌ قَوِيٌّ بِأنَّ ما نُهُوا عَنْهُ فُسُوقٌ وظُلْمٌ، إذْ لا مُناسَبَةَ بَيْنَ مَدْلُولِ هَذِهِ الجُمْلَةِ وبَيْنَ الجُمَلِ الَّتِي قَبْلَها لَوْلا مَعْنى التَّعْرِيضِ بِأنَّ ذَلِكَ فُسُوقٌ وذَلِكَ مَذْمُومٌ ومُعاقَبٌ عَلَيْهِ فَدَلَّ قَوْلُهُ ﴿بِئْسَ الِاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمانِ﴾، عَلى أنَّ ما نُهُوا عَنْهُ مَذْمُومٌ لِأنَّهُ فُسُوقٌ يُعاقَبُ عَلَيْهِ ولا تُزِيلُهُ إلّا التَّوْبَةُ فَوَقَعَ إيجازٌ بِحَذْفِ جُمْلَتَيْنِ في الكَلامِ اكْتِفاءً بِما دَلَّ عَلَيْهِ التَّذْيِيلُ، وهَذا دالٌّ عَلى أنَّ اللَّمْزَ والتَّنابُزَ مَعْصِيَتانِ لِأنَّهُما فُسُوقٌ. وفي الحَدِيثِ: «سِبابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ» .

ولَفْظُ الِاسْمِ هُنا مُطْلَقٌ عَلى الذِّكْرِ، أيِ التَّسْمِيَةِ، كَما يُقالُ: طارَ اسْمُهُ

صفحة ٢٥٠

فِي النّاسِ بِالجُودِ أوْ بِاللُّؤْمِ. والمَعْنى: بِئْسَ الذِّكْرُ أنْ يُذَكَرَ أحَدٌ بِالفُسُوقِ بَعْدَ أنْ وُصِفَ بِالإيمانِ.

وإيثارُ لَفْظِ الِاسْمِ هُنا مِنَ الرَّشاقَةِ بِمَكانٍ لِأنَّ السِّياقَ تَحْذِيرٌ مِن ذِكْرِ النّاسِ بِالأسْماءِ الذَّمِيمَةِ إذِ الألْقابُ أسْماءٌ فَكانَ اخْتِيارُ لَفْظِ الِاسْمِ لِلْفُسُوقِ مُشاكَلَةً مَعْنَوِيَّةً.

ومَعْنى البَعْدِيَّةِ في قَوْلِهِ: ”﴿بَعْدَ الإيمانِ﴾“: بَعْدَ الِاتِّصافِ بِالإيمانِ، أيْ أنَّ الإيمانَ لا يُناسِبُهُ الفُسُوقُ لِأنَّ المَعاصِيَ مِن شَأْنِ أهْلِ الشِّرْكِ الَّذِينَ لا يَزَعُهم عَنِ الفُسُوقِ وازِعٌ، وهَذا كَقَوْلِ جَمِيلَةَ بِنْتِ أُبَيٍّ حِينَ شَكَتْ لِلنَّبِيءِ ﷺ أنَّها تَكْرَهُ زَوْجَها ثابِتَ بْنَ قَيْسٍ وجاءَتْ تَطْلُبُ فِراقَهُ: ”لا أعِيبُ عَلى ثابِتٍ في دِينٍ ولا في خُلُقٍ ولَكِنِّي أكْرَهُ الكُفْرَ بَعْدَ الإسْلامِ (تُرِيدُ التَّعْرِيضَ بِخَشْيَةِ الزِّنا) وإنِّي لا أُطِيقُهُ بُغْضًا“ .

وإذْ كانَ كُلٌّ مِنَ السُّخْرِيَةِ واللَّمْزِ والتَّنابُزِ مَعاصِيَ فَقَدْ وجَبَتِ التَّوْبَةُ مِنها فَمَن لَمْ يَتُبْ فَهو ظالِمٌ: لِأنَّهُ ظَلَمَ النّاسَ بِالِاعْتِداءِ عَلَيْهِمْ، وظَلَمَ نَفْسَهُ بِأنْ رَضِيَ لَها عِقابَ الآخِرَةِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنَ الإقْلاعِ عَنْ ذَلِكَ فَكانَ ظُلْمُهُ شَدِيدًا جِدًّا. فَلِذَلِكَ جِيءَ لَهُ بِصِيغَةِ قَصْرِ الظّالِمِينَ عَلَيْهِمْ كَأنَّهُ لا ظالِمَ غَيْرُهم لِعَدَمِ الِاعْتِدادِ بِالظّالِمِينَ الآخَرِينَ في مُقابَلَةِ هَؤُلاءِ عَلى سَبِيلِ المُبالَغَةِ لِيَزْدَجِرُوا.

والتَّوْبَةُ واجِبَةٌ مِن كُلِّ ذَنْبٍ وهَذِهِ الذُّنُوبُ المَذْكُورَةُ مَراتِبُ، وإدْمانُ الصَّغائِرِ كَبِيرَةٌ.

وتَوْسِيطُ اسْمِ الإشارَةِ لِزِيادَةِ تَمْيِيزِهِمْ تَفْظِيعًا لِحالِهِمْ ولِلتَّنْبِيهِ، بَلْ إنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا قَصْرَ الظُّلْمِ عَلَيْهِمْ لِأجْلِ ما ذُكِرَ مِنَ الأوْصافِ قَبْلَ اسْمِ الإشارَةِ.