Welcome to the Tafsir Tool!
This allows users to review and suggest improvements to the existing tafsirs.
If you'd like to contribute to improving this tafsir, simply click the Request Access button below to send a request to the admin. Once approved, you'll be able to start suggesting improvements to this tafsir.
صفحة ١٨٢
﴿فَدَعا رَبَّهُ أنِّي مَغْلُوبٌ فانْتَصِرْ﴾ ﴿فَفَتَحْنا أبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ﴾ ﴿وفَجَّرْنا الأرْضَ عُيُونًا فالتَقى الماءُ عَلى أمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾ ﴿وحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ ألْواحٍ ودُسُرٍ﴾ ﴿تَجْرِي بِأعْيُنِنا جَزاءً لِمَن كانَ كُفِرَ﴾ .تَفْرِيعٌ عَلى ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهم قَوْمُ نُوحٍ﴾ [القمر: ٩] وما تَفَرَّعَ عَلَيْهِ.
والمَغْلُوبُ مَجازٌ، شَبَّهَ يَأْسَهُ مِن إجابَتِهِمْ لِدَعْوَتِهِ بِحالِ الَّذِي قاتَلَ أوْ صارَعَ فَغَلَبَهُ مُقاتِلُهُ، وقَدْ حَكى اللَّهُ تَعالى في سُورَةِ نُوحٍ كَيْفَ سَلَكَ مَعَ قَوْمِهِ وسائِلَ الإقْناعِ بِقَبُولِ دَعْوَتِهِ فَأعْيَتْهُ الحِيَلُ.
وأنِّي بِفَتْحِ الهَمْزَةِ عَلى تَقْدِيرِ باءِ الجَرِّ مَحْذُوفَةٍ، أيْ دَعا بِأنِّي مَغْلُوبٌ، أيْ بِمَضْمُونِ هَذا الكَلامِ في لُغَتِهِ.
وحَذَفَ مُتَعَلِّقَ فانْتَصِرْ لِلْإيجازِ ولِلرَّعْيِ عَلى الفاصِلَةِ، والتَّقْدِيرُ: فانْتَصِرْ لِي، أيِ انْصُرْنِي.
وجُمْلَةُ ﴿فَفَتَحْنا أبْوابَ السَّماءِ﴾ إلى آخِرِها مُفَرَّعَةٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿فَدَعا رَبَّهُ﴾، فَفُهِمَ مِنَ التَّفْرِيعِ أنَّ اللَّهَ اسْتَجابَ دَعْوَتَهُ وأنَّ إرْسالَ هَذِهِ المِياهِ عِقابٌ لِقَوْمِ نُوحٍ. وحاصِلُ المَعْنى: فَأرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ بِهَذِهِ الكَيْفِيَّةِ المُحْكَمَةِ السَّرِيعَةِ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ فَفَتَحْنا بِتَخْفِيفِ التّاءِ. وقَرَأهُ ابْنُ عامِرٍ بِتَشْدِيدِها عَلى المُبالَغَةِ. والفَتْحُ بِمَعْنى شِدَّةِ هُطُولِ المَطَرِ.
وجُمْلَةُ ﴿فَفَتَحْنا أبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ﴾ مُرَكَّبٌ تَمْثِيلِيٌ لِهَيْئَةِ انْدِفاقِ الأمْطارِ مِنَ الجَوِّ بِهَيْئَةِ خُرُوجِ الجَماعاتِ مِن أبْوابِ الدّارِ عَلى طَرِيقَةِ:
وسالَتْ بِأعْناقِ المَطِيِّ الأباطِحُ
والمُنْهَمِرُ: المُنْصَبُّ، أيِ المَصْبُوبُ يُقالُ: هَمَرَ الماءَ إذا صَبَّهُ، أيْ نازِلٌ بِقُوَّةٍ.صفحة ١٨٣
والتَّفْجِيرُ: إسالَةُ الماءِ، يُقالُ: تَفَجَّرَ الماءُ، إذا سالَ، قالَ تَعالى ﴿حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا﴾ [الإسراء: ٩٠] .وتَعْدِيَةُ فَجَّرْنا إلى اسْمِ الأرْضِ تَعْدِيَةٌ مَجازِيَّةٌ إذْ جَعَلَتِ الأرْضَ مِن كَثْرَةِ عُيُونِها كَأنَّها عَيْنٌ تَتَفَجَّرُ. وفي هَذا إجْمالٌ جِيءَ مِن أجْلِهِ بِالتَّمْيِيزِ لَهُ بِقَوْلِهِ عُيُونًا لِبَيانِ هَذِهِ النِّسْبَةِ، وقَدْ جَعَلَ هَذا مُلْحَقًا بِتَمْيِيزِ النِّسْبَةِ لِأنَّهُ مُحَوَّلٌ عَنِ المَفْعُولِ إذِ المَعْنى: وفَجَّرْنا عُيُونَ الأرْضِ، وهو مِثْلُ المُحَوَّلِ عَنِ الفاعِلِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿واشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾ [مريم: ٤]، أيْ: شَيْبُ الرَّأْسِ إذْ لا فَرْقَ بَيْنَهُما، ونُكْتَةُ ذَلِكَ واحِدَةٌ. قالَ في المِفْتاحِ: إسْنادُ الِاشْتِعالِ إلى الرَّأْسِ لِإفادَةِ شُمُولِ الِاشْتِعالِ لِلرَّأْسِ إذْ وازَنَ اشْتَعَلَ شَيْبُ الرَّأْسِ، واشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وِزانَ اشْتَعَلَتِ النّارُ في بَيْتِي واشْتَعَلَ بَيْتِي نارًا اهـ.
والتِقاءُ الماءِ: تَجْمُّعُ ماءِ الأمْطارِ مَعَ ماءِ عُيُونِ الأرْضِ فالِالتِقاءُ مُسْتَعارٌ لِلِاجْتِماعِ، شَبَّهَ الماءَ النّازِلَ مِنَ السَّماءِ والماءَ الخارِجَ مِنَ الأرْضِ بِطائِفَتَيْنِ جاءَتْ كُلُّ واحِدَةٍ مِن مَكانٍ فالتَقَتا في مَكانٍ واحِدٍ كَما يَلْتَقِي الجَيْشانِ.
والتَّعْرِيفُ في الماءِ لِلْجِنْسِ. وعُلِمَ مِن إسْنادِ الِالتِقاءِ أنَّهُما نَوْعانِ مِنَ الماءِ ماءُ المَطَرِ وماءُ العُيُونِ.
و(عَلى) مِن قَوْلِهِ ﴿عَلى أمْرٍ﴾ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ بِمَعْنى (في) كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿ودَخَلَ المَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِن أهْلِها﴾ [القصص: ١٥]، وقَوْلِ الفَرَزْدَقِ:
عَلى حالَةٍ لَوْ أنَّ في البَحْرِ حاتِمًا ∗∗∗ عَلى جُودِهِ لَضَنَّ بِالماءِ حاتِمُ
والظَّرْفِيَّةُ مَجازِيَّةٌ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ عَلى لِلِاسْتِعْلاءِ المَجازِيِّ، أيْ مُلابِسًا لِأمْرٍ قَدْ قُدِرَ ومُتَمَكِّنًا مِنهُ.ومَعْنى التَّمَكُّنِ: شِدَّةُ المُطابَقَةِ لِما قُدِرَ، وأنَّهُ لَمْ يَحِدْ عَنْهُ قَيْدَ شَعَرَةٍ.
والأمْرُ: الحالُ والشَّأْنُ وتَنْوِينُهُ لِلتَّعْظِيمِ.
ووَصْفُ الأمْرَ بِأنَّهُ ﴿قَدْ قُدِرَ﴾، أيْ أُتْقِنَ وأُحْكِمَ بِمِقْدارٍ، يُقالُ: قَدَرَهُ
صفحة ١٨٤
بِالتَّخْفِيفِ إذا ضَبَطَهُ وعَيَّنَهُ كَما قالَ تَعالى ﴿إنّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: ٤٩] ومَحَلُّ ﴿عَلى أمْرٍ﴾ النَّصْبُ عَلى الحالِ مِنَ الماءِ.واكْتَفى بِهَذا الخَبَرِ عَنْ بَقِيَّةِ المَعْنى. وهو طُغْيانُ الطُّوفانِ عَلَيْهِمِ اكْتِفاءً بِما أفادَهُ تَفْرِيعُ ﴿فَفَتَحْنا أبْوابَ السَّماءِ﴾ كَما تَقَدَّمَ انْتِقالًا إلى وصْفِ إنْجاءِ نُوحٍ مِن ذَلِكَ الكَرْبِ العَظِيمِ، فَجُمْلَةُ وحَمَلْناهُ مَعْطُوفَةٌ عَلى التَّفْرِيعِ عَطْفَ احْتِراسٍ.
والمَعْنى: فَأغْرَقْناهم ونَجَّيْناهُ.
و﴿ذاتِ ألْواحٍ ودُسُرٍ﴾ صِفَةُ السَّفِينَةِ، أُقِيمَتْ مَقامَ المَوْصُوفِ هُنا عِوَضًا عَنْ أنْ يُقالَ: وحَمَلْناهُ عَلى الفُلْكِ، لِأنَّ في هَذِهِ الصِّفَةِ بَيانَ مَتانَةِ هَذِهِ السَّفِينَةِ وإحْكامِ صُنْعِها. وفي ذَلِكَ إظْهارٌ لِعِنايَةِ اللَّهِ بِنَجاةِ نُوحٍ ومَن مَعَهُ، فَإنَّ اللَّهَ أمَرَهُ بِصُنْعِ السَّفِينَةِ وأوْحى إلَيْهِ كَيْفِيَّةَ صُنْعِها ولَمْ تَكُنْ تُعْرَفُ سَفِينَةٌ قَبْلَها، قالَ تَعالى ﴿وأُوحِيَ إلى نُوحٍ أنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إلّا مَن قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [هود: ٣٦] ﴿واصْنَعِ الفُلْكَ بِأعْيُنِنا ووَحْيِنا﴾ [هود: ٣٧]، وعادَةُ البُلَغاءِ إذا احْتاجُوا لِذِكْرِ صِفَةٍ بِشَيْءٍ وكانَ ذِكْرُها دالًّا عَلى مَوْصُوفِها أنْ يَسْتَغْنُوا عَنْ ذِكْرِ المَوْصُوفِ إيجازًا كَما قالَ تَعالى ﴿أنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ﴾ [سبإ: ١١]، أيْ دُرُوعًا سابِغاتٍ.
والحِمْلُ: رَفْعُ الشَّيْءِ عَلى الظَّهْرِ أوِ الرَّأْسِ لِنَقْلِهِ ﴿وتَحْمِلُ أثْقالَكُمْ﴾ [النحل: ٧] ولَهُ مَجازاتٌ كَثِيرَةٌ.
والألْواحُ: جَمْعُ لَوْحٍ وهو القِطْعَةُ المُسَوّاةُ مِنَ الخَشَبِ.
والدُّسُرُ: جَمْعُ دِسارٍ، وهو المِسْمارُ.
وعُدِّيَ فِعْلُ حَمَلْنا إلى ضَمِيرِ نُوحٍ دُونَ مَن مَعَهُ مِن قَوْمِهِ، لِأنَّ هَذا الحِمْلَ كانَ إجابَةً لِدَعْوَتِهِ ولِنَصْرِهِ فَهو المَقْصُودُ الأوَّلُ مِن هَذا الحِمْلِ، وقَدْ أشارَ إلى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿فَأنْجَيْناهُ والَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنّا﴾ [الأعراف: ٧٢] وقَوْلُهُ ﴿فَإذا اسْتَوَيْتَ أنْتَ ومَن مَعَكَ عَلى الفُلْكِ﴾ [المؤمنون: ٢٨] ونَحْوُهُ مِنَ الآياتِ الدّالَّةِ عَلى أنَّهُ المَقْصُودُ بِالإنْجاءِ وأنَّ نَجاةَ قَوْمِهِ بِمَعِيَّتِهِ، وحَسْبُكَ قَوْلُهُ تَعالى في تَذْيِيلِ هَذِهِ الآيَةِ ﴿جَزاءً لِمَن كانَ كُفِرَ﴾ فَإنَّ الَّذِي كانَ كُفِرَ هو نُوحٌ كَفَرَ بِهِ قَوْمُهُ.
صفحة ١٨٥
وعَلى لِلِاسْتِعْلاءِ المَجازِيِّ وهو التَّمَكُّنُ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿فَإذا اسْتَوَيْتَ أنْتَ ومَن مَعَكَ عَلى الفُلْكِ﴾ [المؤمنون: ٢٨]، وإلّا فَإنَّ اسْتِقْرارَهُ في السَّفِينَةِ كائِنٌ في جَوْفِها كَما قالَ تَعالى ﴿إنّا لَمّا طَغى الماءُ حَمَلْناكم في الجارِيَةِ﴾ [الحاقة: ١١] ﴿قُلْنا احْمِلْ فِيها مِن كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ [هود: ٤٠] .والباءُ في بِأعْيُنِنا لِلْمُلابَسَةِ.
والأعْيُنُ: جَمْعُ عَيْنٍ بِإطْلاقِهِ المَجازِيِّ، وهو الِاهْتِمامُ والعِنايَةُ، كَقَوْلِ النّابِغَةِ:
عَلِمْتُكَ تَرْعانِي بِعَيْنٍ بَصِيرَةٍ
وقالَ تَعالى ﴿فَإنَّكَ بِأعْيُنِنا﴾ [الطور: ٤٨] .وجُمِعَ العَيْنُ لِتَقْوِيَةِ المَعْنى لِأنَّ الجَمْعَ أقْوى مِنَ المُفْرَدِ، أيْ بِحِراساتٍ مِنّا وعِناياتٍ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الجَمْعُ بِاعْتِبارِ أنْواعِ العِناياتِ بِتَنَوُّعِ آثارِها. وأصْلُ اسْتِعْمالِ لَفْظِ العَيْنِ في مِثْلِهِ تَمْثِيلٌ بِحالِ النّاظِرِ إلى الشَّيْءِ المَحْرُوسِ مِثْلُ الرّاعِينَ كَما يُقالُ لِلْمُسافِرِ: عَيْنُ اللَّهِ عَلَيْكَ ثُمَّ شاعَ ذَلِكَ حَتّى ساوى الحَقِيقَةَ، فَجُمِعَ بِذَلِكَ الِاعْتِبارِ. وتَقَدَّمَ في سُورَةِ هُودٍ.
و(جَزاءً) مَفْعُولٌ لِأجْلِهِ لِ (فَتَحْنا) وما عُطِفَ عَلَيْهِ، أيْ: فَعَلْنا ذَلِكَ كُلَّهُ جَزاءً لِنُوحٍ. ومَن كانَ كُفِرَ، هو نُوحٌ فَإنَّ قَوْمَهُ كَفَرُوا بِهِ، أيْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِأنَّهُ رَسُولٌ وكانَ كُفْرُهم بِهِ مُنْذُ جاءَهم بِالرِّسالَةِ فَلِذَلِكَ أقْحَمَ هُنا فِعْلَ كانَ، أيْ لِمَن كُفِرَ مُنْذُ زَمانٍ مَضى، وذَلِكَ ما حُكِيَ في سُورَةِ نُوحٍ بِقَوْلِهِ ﴿قالَ رَبِّ إنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا ونَهارًا﴾ [نوح: ٥] إلى قَوْلِهِ ﴿ثُمَّ إنِّي دَعَوْتُهم جِهارًا﴾ [نوح: ٨] ﴿ثُمَّ إنِّي أعْلَنْتُ لَهم وأسْرَرْتُ لَهم إسْرارًا﴾ [نوح: ٩] .
وحَذَفَ مُتَعَلِّقَ (كُفِرَ) لِدَلالَةِ الكَلامِ عَلَيْهِ. وتَقْدِيرُهُ: كُفِرَ بِهِ، أوْ لِأنَّهُ نَصَحَ لَهم ولَقِيَ في ذَلِكَ أشَدَّ العَناءِ فَلَمْ يَشْكُرُوا لَهُ بَلْ كَفَرُوهُ فَهو مَكْفُورٌ فَيَكُونُ مِن بابِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ولا تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: ١٥٢] .