﴿لا يَسْتَوِي أصْحابُ النّارِ وأصْحابُ الجَنَّةِ أصْحابُ الجَنَّةِ هُمُ الفائِزُونَ﴾ .

تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ولْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ [الحشر: ١٨] إلَخْ. لِأنَّهُ جامِعٌ لِخُلاصَةِ عاقِبَةِ الحالَيْنِ: حالِ التَّقْوى والِاسْتِعْدادِ لِلْآخِرَةِ، وحالِ نِسْيانِ ذَلِكَ وإهْمالِهِ، ولِكِلا الفَرِيقَيْنِ عاقِبَةُ عَمَلِهِ. ويَشْمَلُ الفَرِيقَيْنِ وأمْثالَهم.

والجُمْلَةُ أيْضًا فَذْلَكَةٌ لِما قَبْلَها مِن حالِ المُتَّقِينَ والَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ ونُسُّوا أنْفُسَهم لِأنَّ ذِكْرَ مِثْلِ هَذا الكَلامِ بَعْدَ ذِكْرِ أحْوالِ المُتَحَدَّثِ عَنْهُ يَكُونُ في الغالِبِ لِلتَّعْرِيضِ بِذَلِكَ المُتَحَدَّثِ عَنْهُ كَقَوْلِكَ عِنْدَما تَرى أحَدًا يُؤْذِي النّاسَ «المُسْلِمُ مَن سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِن لِسانِهِ ويَدِهِ»، فَمَعْنى الآيَةِ كِنايَةٌ عَنْ كَوْنِ المُؤْمِنِينَ هم أصْحابُ الجَنَّةِ، وكَوْنِ الَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ هم أهْلُ النّارِ فَتَضَمَّنَتِ الآيَةُ وعْدًا لِلْمُتُّقِينَ ووَعِيدًا لِلْفاسِقِينَ.

صفحة ١١٥

والمُرادُ مِن نَفْيِ الِاسْتِواءِ في مِثْلِ هَذا الكِنايَةُ عَنِ البَوْنِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ.

وتَعْيِينُ المُفَضَّلِ مِنَ الشَّيْئَيْنِ مَوْكُولٌ إلى فَهْمِ السّامِعِ مِن قَرِينَةِ المَقامِ كَما في قَوْلِ السَّمَوْألِ:

فَلَيْسَ سَواءً عالِمٌ وجَهُولُ

وقَوْلُ أبِي حِزامٍ غالِبِ بْنِ الحارِثِ العُكْلِي:

وأعْلَمُ أنَّ تَسْلِيمًا وتَرْكًا ∗∗∗ لَلا مُتَشابِهانِ ولا سَواءُ

ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿لَيْسُوا سَواءً﴾ [آل عمران: ١١٣] بَعْدَ قَوْلِهِ ﴿ولَوْ آمَنَ أهْلُ الكِتابِ لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ [آل عمران: ١١٠] الآيَةَ. وقِيلَ قَوْلُهُ ﴿مِن أهْلِ الكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ﴾ [آل عمران: ١١٣] . وقَدْ يُرْدِفُ بِما يَدُلُّ عَلى جِهَةِ التَّفْضِيلِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿لا يَسْتَوِي مِنكم مَن أنْفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وقاتَلَ أُولَئِكَ أعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أنْفَقُوا مِن بَعْدُ وقاتَلُوا﴾ [الحديد: ١٠] . وقَوْلُهُ هُنا ﴿أصْحابُ الجَنَّةِ هُمُ الفائِزُونَ﴾، وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ [النساء: ٩٥] الآيَةُ في سُورَةِ النِّساءِ.

وأمّا مَن ذَهَبَ مِن عُلَماءِ الأُصُولِ إلى تَعْمِيمِ نَحْوِ (لا يَسْتَوُونَ) مِن قَوْلِهِ تَعالى ﴿أفَمَن كانَ مُؤْمِنًا كَمَن كانَ فاسِقًا لا يَسْتَوُونَ﴾ [السجدة: ١٨] فاسْتَدَلُّوا بِهِ عَلى أنَّ الفاسِقَ لا يَلِي وِلايَةَ النِّكاحِ، وهو اسْتِدْلالُ الشّافِعِيَّةِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَرْضِيٍّ، وقَدْ أباهُ الحَنَفِيَّةُ ووافَقَهم تاجُ الدِّينِ السُّبْكِيِّ في غَيْرِ جَمْعِ الجَوامِعِ.

والقَصْرُ المُسْتَفادُ مِن ضَمِيرِ الفَصْلِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿أصْحابُ الجَنَّةِ هُمُ الفائِزُونَ﴾ قَصْرٌ ادِّعائِيٌّ لِأنَّ فَوْزَهم أبَدِيٌّ فاعْتَبَرَ فَوْزَ غَيْرِهِمْ بِبَعْضِ أُمُورِ الدُّنْيا كالعَدَمِ.