ثم بين - سبحانه - أن كفر الكافرين ليس سيبه نقصان الدليل على صحة إيمان المؤمنين ، وإنما سببهخ الجحود والحسد وإيثار الهوى على الهدى ، بدليل أن بني إسرائيل قد آتاهم الله آيات ببينات تهدي إلى الإِيمان ومع ذلك كفروا بها . استمع إلى القرآن وهو يصور موقفهم بعد تهديده للكافرين في الآية السابقة فيقولك ( سَلْ بني إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ . . . ) .قال الفخر الرازي : اعلم أنه ليس المقصود : سل بني إسرائيل ليخبروك عن تلك الآيات فتعلمها؛ وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان عالماً بتلك الأحوال بإعلام الله - تعالى - إياه ، بل المقصود منه المبالغة في الزجر عن الإعراض عن دلائل الله - تعالى - .أي : سل هؤلاء الحاضرين أنا لما آتينا أسلافهم آيات بينات فأنكروها ، لا جرم استوجبوا العقاب من الله - تعالى - ، وذلك تنبيه لهؤلاء الحاضرين على أنهم لو زلوا عن آيات الله لوقعوا في العذاب كما وقع أولئك المتقدمون فيه . والمقصود من ذكر هذه الحكاية أن يعتبروا بغيرهم . . . " .و ( سَلْ ) فعل أمر من سأل وأصله اسأل فنقلت فتحة الهمزة إلى السين قبلها وصارت ساكنة فحذفت . ولما فتحت السين لم يكن هناك حاجة إلى همزة الوصل فحذفت أيضاً .و ( كَمْ ) إما خبرية والمسئول عنه محذوف ، والجملة ابتدائية لا محل لها من الإعراب مبينة لاستحقاقهم التقريع والتوبيخ . كأنه قيل ( سَلْ بني إِسْرَائِيلَ ) عن طغيانهم وجحودهم للحق بعد وضوحه فقد آتيناهم آيات كثيرة بينة ومع ذلك أعرض كثير منهم عنها .وإما استفهامية والجملة في موضع المفعول الثاني لقوله ( سَلْ ) وقيل : في موضع المصدر ، أي : سلهم هذا السؤال . وقيل : في موضع الحال . أي : سلهم قائلا : كم آتيناهم .والاستفهام للتقرير بمعنى حمل المخاطب على الإِقرار - بأنه قد خالف ما تقتضيه الآيات من الإِيمان بالله - تعالى - .فالمراد بهذا السؤال تقريعهم على جحودهم الحق بعد وضوح الآيات لا معرفة إجابتهم كما إذا أراد واحد منا توبيخ أحد فيقول لمن حضره : سله كم أنعمت عليه؟ومن الآيات البينات والمعجزات الواضحات التي أظهرها الله - تعالى - لبني إسرائيل على أيدي أنبيائهم ليؤمنوا بهم : عصا موسى التي ألقاها فإذا هي حية تسعى؛ والتي ألقاها فإذا هي تلقف ما صنعه السحرة ، والتي ضرب بها البحر ( فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم ) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على وحدانية الله وصدق من جرت على يديه سهذه الخوارق ، ومع ذلك فمنهم من قال لموسى ( أَرِنَا الله جَهْرَةً ) ومنهم من كفر وعبد العجل . .ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة الجاحدين لآياته فقال : ( وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب ) .التبديل : جعل شيء بدلا عن الآخر ، ونعمة الله هنا تتناول آياته الدالة على صدق رسله ، كما يتناول ما أسبغه الله على عباده من صحة ومال وعقل وغير ذلك من نعمه الظاهرة والباطنة .أي : ومن يبدل نعم الله بعد ما وصلت إليه واتضحت له ، بأن كفر بها مع أنها تدعو إلى الإِيمان ، وجحد فضلها مع أنها تستلزم منه الشكر لمسديها من يبدل ذلك التبديل فإن الله سيعاقبه عقاباً شديداً .وقوله : ( مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ ) زيادة توبيخ لهم ، وأنهم مستحقون لأشد ألوان العذاب ، لأنهم قد كفروا بآيات الله وجحدوا نعمه بعد معرفتها والوقوف على تفاصيلها . فهو كقوله - تعالى - : ( وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ الله ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) فهو تبديل عن معرفة لا عن جهل أو خطأ .وقوله : ( فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب ) تعليل للجواب أقيم مقامه .أي : ومن يبدل نعمة الله عاقبه أشد عقوبة لأنه شديد العقاب فلا يفلت منه أحد . ويحتمل أن يكون هذه الجملة هي الجواب بتقدير الضمير أي شديد العقاب له .والعقاب هو الجزاء عن جناية وجرم ، وهو مأخوذ - كما يقول القرطبي - من العقب ، كأن المعاقب يمشي بالمحازاة للجاني في آثار عقبه ، ومنه عقبة الراكب - أي الموضع الذي يركب منه - ، فالعقاب والعقوبة يكونان بعقب الذنب وقد عاقبه بذنبه .فالآية الكريمة وعيد شديد لكل من يبدل نعم الله ، ويترك شكرها .وبعد أن ذكر القرآن حال من يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته ، أتبعه بذكر الأسباب التي حملت