ثم لفت - سبحانه - أنظار المؤمنين إلى أدب رفيع فقال : ( ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس فافسحوا يَفْسَحِ الله لَكُمْ ) .وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها ما روى عن قتادة أنه قال : نزلت هذه الآية فى مجالس الذكر ، وذلك أنهم كانوا إذا رأوا أحدهم مقبلا ، ضنوا بمجالسهم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض .وقال مقاتل بن حيان : " أنزلت هذه الآية يوم الجمعة ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ فى الصفة ، وفى المكان ضيق ، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس من أهل بدر وقد سُبِقوا فى المجالس فقاموا حيال رسول الله - صلى الله عليه وسلم فقالوا السلام عليكم أيها النبى ورحمة الله وبركاته ، فرد النبى - صلى الله عليه وسلم - ثم سلموا على القوم بعد ذلك ، فردوا عليهم السلام ، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم .فعرف النبى - صلى الله عليه وسلم - ما يحملهم على القيام فلم يُفْسَح لهم ، فشق ذلك عليه ، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر : قم يا فلان ، قم يا فلان .فشق ذلك على من أقيم من مجلسه وعرف - صلى الله عليه وسلم - الكراهة فى وجوههم .فقال المنافقون : ألستم تزعمون أن صاحبكم هذا يعدل بين الناس؟ والله ما رأيناه قد عدل على هؤلاء . . . فبلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " رحم الله رجلا يفسح لأخيه " فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعا "، ونزلت هذه الآية .وقوله ( تَفَسَّحُواْ ) من التفسح ، وهو تفعل بمعنى التوسع ، يقال : فسح فلان لفلان فى المجلس - من باب نفع - إذا أوجد له فسحة فى المكان ليجلس فيه .والمعنى : يا من آمنتم بالله حق الإيمان ، إذا قيل لكم توسعوا فى مجالسكم لتسع أكبر قدر من إخوانكم فامتثلوا واستجيبوا . لأن فعلكم هذا يؤدى إلى أن يفسح الله - تعالى - لكم فى رحمته ، وفى منازلكم فى الجنة ، وفى كل شىء تحبونه .وحذف - سبحانه - متعلق ( يَفْسَحِ الله لَكُمْ ) ليشمل كل ما يرجو الناس أن يفسح الله لهم فيه من رزق ، ورحمة ، وخير دنيوى وأخروى .والمراد بالمجالس : مجالس الخير ، كمجالس الذكر ، والجهاد ، والصلاة ، وطلب العلم ، وغير ذلك من المجالس التى يحبها الله - تعالى- .وقراءة الجمهور : " إذا قيل لكم تفسحوا فى المجلس " ، بالإفراد على إرادة الجنس . . أى : قيل لم تفسحوا فى أى مجلس خير فافسحوا . . . لأن هذا التوسع يؤدى إلى ازدياد المحبة والمودة بينكم ، وقرأ عاصم بصيغة الجمع .ثم أرشدهم - سبحانه - إلى نوع آخر من الأدب السامى فقال : ( وَإِذَا قِيلَ انشزوا فَانشُزُواْ ) .والنشوز الارتفاع عن الأرض . يقال : نشَز ينشُز وينشِز - من بابى نصر وضرب - إذا ارتفع من مكانه .أى : وإذا قبل لكم - أيها المؤمنون - أنهضوا من أماكنكم ، للتوسعة على المقبلين عليكم ، فانهضوا ولا تتكاسلوا .وقوله : ( يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ مِنكُمْ والذين أُوتُواْ العلم دَرَجَاتٍ ) جواب الأمر فى قوله : ( فَانشُزُواْ ) .وعطف " الذين أوتوا العلم " على " الذين آمنوا " من باب عطف الخاص على العام ، على سبيل التعظيم والتنويه بقدر العلماء .أى : وإذا قيل لكم ارتفعوا عن مواضعكم فى المجالس فارتفعوا ، فإنكم إن تفعلوا ذلك ، يرفع الله - تعالى - المؤمنين الصادقين منكم درجات عظيمة فى الآخرة ، ويرفع العلماء منكم درجات أعظم وأكبر .ويرى بعضهم أن المراد بالموصولين واحد ، والعطف فى الآية لتنزيل التغاير فى الصفات ، منزلة التغاير فى الذات .والمعنى : يرفع الله الذين آمنوا العالمين درجات عظيمة لا يعلم مقدارها إلا الله - تعالى - .ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بما يدل على شمول علمه فقال : ( والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) .أى : والله - تعالى - مطلع اطلاعا تاما على نواياكم ، وعلى ظواهركم وبواطنكم ، فاحذروا مخالفة أمره ، واتبعوا ما أرشدكم إليه من أدب وسلوك .هذا : ومن الأحكام التى أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة : أن إفساح المؤمن لأخيه المؤمن فى المجلس ، من الآداب الإسلامية التى ينبغى التحلى بها ، لأن هذا الفعل بجانب رفعه للدرجات فإنه سبب للتواد والتعاطف والتراحم .قال القرطبى ما ملخصه : والصحيح فى الآية أنها عامة فى كل مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير والأجر ، سواء أكان مجلس حرب ، أم ذكر ، أم مجلس يوم الجمعة . . . ولكن بدون أذى ، فقد أخرج الشيخان عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه " .وعن ابن عمر - " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يقام الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه آخر ، " ولكن تفسحوا وتوسعوا " " .وعلى أية حال فإن الآية الكريمة ترشد المؤمنين فى كل زمان ومكان ، إلى لون من مكارم الأخلاق ، ألا وهو التوسعة فى المجالس ، وتقديم أهل العلم والفضل ، وإنزالهم منازلهم التى تليق بهم فى المجالس .كذلك أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة أنه يجوز القيام للقادم .قال الإمام ابن كثير : وقد اختلف الفقهاء فى جواز القيام للوارد إذا جاء - على أقوال : فمنهم من رخص فى ذلك محتجا بحديث : " قوموا إلى سيدكم " .ومنهم من منع من ذلك ، محتجا بحديث : " قوموا إلى سيدكم " .ومنهم من منع من ذلك ، محتجا بحديث : " من أحب أن يتمثل له الرجال قياما . فليتبوأ مقعده من النار " .ومنهم من فصل فقال : يجوز القيام للقادم من سفر ، وللحاكم فى محل ولايته ، كما دل عليه قصة سعد بن معاذ ، فإنه لما استقبله البنى - صلى الله عليه وسلم - حاكما فى بنى قريظة ، فرآه مقبلا قال للمسلمين : " قوموا إلى سيدكم " ، وما ذاك إلا ليكون أنفذ لحكمه - والله أعلم - .فأما اتخاذه - أى القيام - دينا ، فإنه من شعار الأعاجم . . . وفى الحديث المروى فى السنن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجلس حيث انتهى به المجلس - ولكن حيث يجلس يكون صدر ذلك المجلس ، وكان الصحابة يجلسون منه على مراتبهم ، فالصديق عن يمينه ، وعمر عن يساره ، وبين يديه غالبا عثمان وعلى لأنهما كانا ممن يكتب الوحى ، وكان يأمرهما بذلك . .كذلك أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة ، فضل العلماء وسمو منزلتهم .قال صاحب الكشاف : عن عبد الله بن مسعود أنه كان إذا قرأ هذه الآية قال : يأيها الناس افهموا هذه الآية ، ولترغبكم فى العلم . وفى الحديث الشريف : " بين العالم والعابد مائة درجة " وفى حديث آخر : " فضل العالم عل العابد ، كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم " .وعن بعض الحكماء أنه قال : ليت شعرى أى شىء أدرك من فاته العلم ، وأى شىء فات من أدرك العلم .وعن الأحنف : كل عز لم يوطد بعلم فإلى ذل يصير .